تقع مدينة كسلا على مسافة 620 كلم شرق العاصمة السودانية الخرطوم على مقربة من الحدود الإريترية ، وتقطنها قبائل البجة والرشايدة المنتشرة في داخلها وخارجها، و يعتمد سكانها على الزراعة والتجارة مع دولة إريتريا، مبانيها من الطوب والقش وتكثر فيها الطوائف الدينية.فيها تجد الهدندوى الذي لا يهدأ له بال إلا عندما يرى شعره كثيفاً فيضع عليه الخلال (أداة لتمشيط الشعر) ويصطحب سيفه الطويل ، ويعلق مخلاته التي يحمل فيها أدوات صناعة القهوة ، وبذلك تكتمل شخصيته البيجاوية التي يفاخر بها القبائل الأخرى ، أما الرشيدي ذو الشعر الناعم الطويل والمغطى بعمامة صغيرة ذات لون أحمر داكن ، والمرتدي لجلابيته الزرقاء ، فلا يتنفس الصعداء إلا عندما يمتلك عربة نصف نقل (هايلوكس) يوقفها أمام خيمته وحينها يشعر بأنه ملك الدنيا وما فيها ، غير أن الحلنقى الذي رضي بالإقامة في المدينة ، فقد اكتفى بلبس الثوب البيجاوي والصديري وهو بذلك يعبر عن جذوره الإثنية.أما بنو عامر في كسلا ، فينقسمون إلى نصفين ، نصف سوداني والآخر إريتري ، فالسوداني ذابت ثقافته التي لم يبق منها إلا لغتهم وحرصهم على امتلاك الذهب الذي يقدم مهراً للعروس، أما النصف الآخر الإريتري فاختار أن يكون لاجئاً في السودان ، فهو رغم ثقافته العربية وديانته الإسلامية ، لا يريد أن يكون سودانياً ولا إريترياً يتهم بالاستقرار في وطنه ، فهم يقولون إنهم إذا انتموا إلى السودان سرت عليهم قوانين الخدمة العسكرية وهذا ما يتحاشونه ، أما الاستقرار في إريتريا فهذه الطامة الكبرى ، فالاضطهاد يكون مصيرهم ، والجهل حليفهم ، ليس هذا فحسب ، بل إن ممارسة شعائرهم الدينية من صلاة وصوم وغيرها تسبب لهم المشاكل مع النظام الإريتري ، فاختار بنو عامر أن يكونوا لاجئين ولكن أين ؟ في مدينة خضراء تكسوها النضارة طوال العام وتزينها الأشجار من كل جانب تزدان بساتينها بأشجار الليمون والموز والبرتقال ، وأنت داخل المركبة في طريقة إليها تتراءى لك وكأنها غابة داكنة الخضرة تسترها الجبال التي تعرف بجبال توتيل والتاكا من الخلف.وكسلا بطبيعتها الساحرة تزداد جمالاً في فصل الخريف ، وتتحول فيه إلى منتج للسائحين وملاذ للمتزوجين ، ويجري غربها نهر موسمي يسمى نهر القاش ، ولسوء حظي أنني وجدته في غير موسمه ، إذ لا توجد به إلا مياه قليلة ، وعلى جانبه أكوام مرتفعة من التراب ، نقلها أهالي مدينة كسلا والقرى المجاورة إلى ضفتيه حماية لهم من فيضانه في الخريف ، حيث تغمر مياهه أطراف المدينة والقرى المجاورة.وتتعدد مصادر جمال مدينة كسلا بتعدد أسمائها ، فكل من زارها أطلق عليها اسماً : فمنهم من أعجبه نهر القاش فسماها أرض القاش ، ومنهم من أعجبه جبل توتيل فسماها بلاد توتيل ، والذي أعجبته خضرتها سماها كسلا الخضراء.
جبل توتيل:
هو جبل مرتفع يقع جنوب شرق كسلا كلما تسلقته إلى أعلى وجدت مساحة منبسطة ومسطحة تصلح للجلوس عليها ، وهو معلم رئيسي للمدينة ، فحيثما ذكرت كسلا ذكر جبل توتيل وما من أحد زار المدينة إلا وزاره كذلك ، فهو مكان مناسب للرحلات والتنزه ، ومن فوقه يكتشف الشخص جمال مدينة كسلا فيراها وكأنما تعرض أمامه على شاشة تلفزيونية كبيرة ، ترى من قمته المنازل والأشجار والسواقي الجنوبية والشمالية وأماكن زراعة الموز ونهر القاش، بل كل معالم المدينة ، لذلك أصبح الجبل مكاناً للرحلات وخاصة في أيام العطلات ، حيث تكثر فيها المطاعم وأماكن إعداد القهوة المشروب الفضل لدى سكان كسلا وقبائلها ، وأماكن بيع التحف ، وفوقه يلتقط الأصدقاء والأسر الصور التذكارية ، ولكن أكثر ما يميزه بئره ، فما سر هذه البئر ذات المياه العذبة ؟لقد أصبحت مقولة (تشرب من مياه توتيل تاني تجي راجع) معتقداً وأسطورة حيث يعتقد أهل كسلا أن مياه بئر جبل توتيل تزيد عمر الإنسان ، فهي عين طبيعية لم يحرفها إنسان ، ماؤها عذب لا ينضب ، فمنذ عرف الناس جبل توتيل عرفوها معه، ويفسر الأهالي المقولة بأن الشخص الذي يشرب من مياه هذه البئر لا يموت حتى يشرب منها مرة ثانية ولكن العقلاء يقولون في تفسيرهم للمقولة بأن الشخص الذي يزور كسلا ويشرب من بئر توتيل تعجبه المدينة بطبيعتها الساحرة وطيبة أهلها فيزروها مرة أخرى ، وأذكر أنني زرت كسلا من قبل لإعداد تحقيقات عن النازحين فسقاني أحد الأصدقاء من ماء جبل توتيل ، وذكر لي المقولة الرائعة فكنت مصراً على تكذيب المقولة وعدم زيارة كسلا مرة ثانية ، ولكنني عدت إليها مرة أخرى ، حينها ذكرني صديقي بها فقال : (تشرب من توتيل تاني تجي راجع) فكانت مناسبة أجبرتني على الذهاب مرة ثانية إلى جبل توتيل والشرب من بئره.سوق الرشايدة في كسلا :الرشايدة هم آخر القبائل العربية التي هاجرت على السودان من الجزيرة العربية فمنهم من استقر في ضواحي بورسودان ، ومنهم من آثر الترحال محافظاً على حياته البدوية.وللرشايدة في كسلا سوق كبير خاص بهم ، فيه قابلت حامد النقيشي عمدة النقيشاب (فرع من الرشايدة) والذي اصطحبني من قبل لزيارة جميع قرى الرشايدة بكسلا فسألته قائلاً : إذا كان للرشايدة زيهم وثقافتهم الخاصة فلماذا يكون لهم سوق خاص ؟ فالسوق للجميع ! فقال العمدة : إن الرشايدة قبيلة ذات طبائع خاصة كما ذكرت لا يلبسون كما يلبس كافة السودانيين ، فنساؤهم يلبسن البرقع والجلباب ذا اللونين اللبني والأحمر ، فلا تجد رشيدية البتة خارجة عن هذا الزي.والحقيقة أنني لم أر سوق عكاظ ، لكن الذي سمعته عنه جعلني أشبه سوق الرشايدة به فالسوق مليء بالنشاط والحيوية فهناك الخياطون المتخصصون في خياطة الزي الرشيدي ، وفيه مجموعات الرشايدة يرتفع صوتها ويتناقش أفرادها لحل مشكلة ما ، وإذا كنت من الذين يحبون النكات والدردشة ، فهناك حميد الرشيدي الذي يضحك العبوس ، وإذا أردت أن تأكل فهنالك الكثير من أنواع الأكلات الشرقية ، فلديك كثير من الخيارات ، القراد ، والسلات ، والمخبازة ، وكلها أسماء أكلات فمثلما تفتخر إيطاليا بالبتزا ، وأمريكا بالبرغر ، فإن كسلا تفتخر بأكلاتها الشعبية فالمخبازة هي الفطير بالموز والعسل والطحينة ، أما القراد فهو الأمعاء المحشوة باللحم ، والسلات هي الشية التي تسمى شية الجمر أيضاً ، ولكنها تحمر في الحصى وتضاف إليها البهارات فتصير لذيذة ، تهشهاً عندما تشبع منها ، وعندما تغيب عنك تشتهيها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق